فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

سورة الصف:
قوله تعالى: {لم تقولون ما لا تفعلون}
في سبب نزولها خمسة أقوال:
أحدها: ما روى أبو سلمة عن عبد الله بن سلام، قال: قعدنا نفرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل عملناه، فأنزل الله: {سبح لله ما في السموات} إلى آخر السورة.
والثاني: أن الرجل كان يجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: فعلتُ كذا وكذا، وما فعل، فنزلت {لم تقولون ما لا تفعلون} رواه عكرمة عن ابن عباس، وكذلك قال الضحاك: كان الرجل يقول: قاتلتُ، ولم يقاتل، وطعنت، ولم يطعن، وصبرت، ولم يصبر، فنزلت هذه الآية.
والثالث: أن ناسًا من المسلمين كانوا يقولون قبل أن يفرض الجهاد: لوددنا أن الله تعالى دلنا على أحب الأعمال إِليه، فلما نزل الجهاد، كرهه ناس من المؤمنين، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والرابع: أن صهيبًا قتل رجلًا يوم بدر، فجاء رجل فادعى أنه قتله وأخذ سلبه، فقال صهيب: أنا قتلته يا رسول الله، فأمره أن يدفع سلبه إلى صهيب، ونزلت هذه الآية، رواه سعيد بن المسيب عن صهيب.
والخامس: أن المنافقين كانوا يقولون للنبي وأصحابه: لو قد خرجتم خرجنا معكم، ونصرناكم.
فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم نكصوا عنه، فنزلت هذه الآية، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: {كبُر مقتًا عند الله} قال الزجاج: {مقتًا} منصوب على التمييز، والمعنى: كَبُرَ قولكم ما لا تفعلون مقتًا عند الله.
ثم أعلم عز وجل ما الذي يحبه، فقال تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص} أي: بنيان لاصق بعضه ببعض، فأعلم أنه يحب من يثبت في الجهاد، ويلزم مكانه كثبوت البنيان المرصوص.
ويجوز أن يكون عنى أن يستوي ثباتهم في حرب عدوِّهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص، وللمفسرين في المراد بـ: {مرصوص} قولان.
أحدهما: أنه الملتصق بعضه ببعض، فلا يرى فيه خلل لإحكامه، قاله الأكثرون.
والثاني: أنه المبنيُّ بالرصاص، وإلى نحو هذا ذهب الفراء، وكان أبو بحرية يقول: كانوا يكرهون القتال على الخيل، ويستحبُّون القتال على الأرض لهذه الآية اسم أبي بحرية: عبد الله بن قيس التَّراغِمي، يروي عن معاذ، وكأنه أشار بذلك إلى أن الفرسان لا يصطفُّون في الغالب إنما يَصْطَفُّ الرَّجَّالة.
قوله تعالى: {وإذ قال موسى} المعنى: اذكر لمن يؤذيك من المنافقين ما صنعتُ بالذين آذَوْا موسى. وقد ذكرنا ما آذَوْا به موسى في [الأحزاب: 69].
قوله تعالى: {فلما زاغوا} أي: مالوا عن الحق {أزاغ الله قلوبهم} أي: أمالها عن الحق جزاءً لما ارتكبوه، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى: {يأتي من بعدي} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم {من بعديَ اسْمُه} بفتح الياء.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم {من بعديْ اسمه} بإسكان الياء {ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب} وفيهم قولان.
أحدهما: أنهم اليهود، قاله مقاتل.
والثاني: النصارى حين قالوا: عيسى ابن الله، قاله أبو سليمان الدمشقي.
وقرأ ابن مسعود، وعاصم الجحدري، وطلحة بن مصرف {يَدَّعِي إِلى الإسلام} بفتح الياء، والدال، وتشديدها، وبكسر العين، وما بعد هذا في [براءة: 32] إلى قوله تعالى: {مُتِمُّ نُورِهِ} قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم وخلف {مُتِمُّ نُورِه} مضاف.
وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم {مُتِمٌّ} رفع منون.
قوله تعالى: {هل أدلكم على تجارة} قال المفسرون: نزلت: هذه الآية حين قالوا: لو علمنا أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا به أبدًا، فدلَّهم الله على ذلك، وجعله بمنزلة التجارة لمكان ربحهم فيه.
قوله تعالى: {تنجيكم} قرأ ابن عامر {تنجيِّكم} بالتشديد.
وقرأ الباقون بالتخفيف.
ثم بَيَّن التجارة، فقال تعالى: {تؤمنون بالله} إلى قوله تعالى: {يغفر لكم} قال الزجاج: وقوله: {يغفر لكم} جواب قوله: {وتجاهدون}، لأن معناه معنى الأمر.
والمعنى: آمنوا بالله وجاهدوا، يغفر لكم، أي: إن فعلتم ذلك، يغفر لكم.
وقد غلط بعض النحويين، فقال: هذا جواب {هل} وهذا غلط بَيِّنٌ، لأنه ليس إذا دلَّهم على ما ينفعهم غفر لهم، إِنما يغفر لهم إذا عملوا بذلك.
ومن قرأ {يغفر لهم} بإدغام الراء في اللام، فغير جائز عند سيبويه، والخليل، لأنه لا تدغم الراء في اللام في قولهم.
وقد رُوِيَتْ عن أبي عمرو بن العلاء، وهو إمام عظيم، ولا أحسبه قرأها إِلا وقد سمعها من العرب.
وقد زعم سيبويه والخليل وجميع البصريين، ما خلا أبا عمرو، أن اللام تدغم في الراء، وأن الراء لا تدغم في اللام، وحُجَّتهم أن الراء حرف مكرر قوي، فإذا أدغمت في اللام ذهب التكرير منها.
وما بعد هذا قد سبق إلى قوله تعالى: {وأخرى تحبُّونها} قال الفراء: والمعنى: ولكم في العاجل مع ثواب الآخرة أخرى تحبُّونها، ثم فسرها فقال تعالى: {نَصْرٌ من الله وفتح قريب} وفيه قولان.
أحدهما: أنه فتح مكة، قاله ابن عباس.
والثاني: فتح فارس والروم، قاله عطاء.
قوله تعالى: {وبشر المؤمنين} أي: بالنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة، ثم حضَّهم على نصر دينه بقوله تعالى: {كونوا أنصار الله} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، {كونوا أنصارًا لله} منوَّنة.
وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي {أنصارَ الله} ومعنى الآية: دُوموا على ما أنتم عليه، وانصروا دين الله، مثل نُصْرَة الحواريين لمَّا قال لهم عيسى: {مَن أنصاري إلى الله} وحرَّك نافع ياء {مَن أنصاريَ إِلى الله} وقد سبق تفسير هذا الكلام [آل عمران: 52] {فآمنت طائفة من بني إسرائيل} بعيسى {وكفرت طائفة} {فأيَّدنا الذين آمنوا} بعيسى {على عدوِّهم} وهم مخالفو عيسى، كذلك قال ابن عباس، ومجاهد، والجمهور، وقال مقاتل: تم الكلام عند قوله تعالى: {وكفرت طائفة}، {فأيدنا الذين آمنوا} بمحمد {على عدوهم فأصبحوا ظاهرين}، بمحمد على الأديان.
وقال إبراهيم النخعي: أصبح من آمن بعيسى ظاهرين بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم، أن عيسى كلمة الله وروحه بتعليم الحجة.
قال ابن قتيبة: {فأصبحوا ظاهرين} أي: غالبين عليهم بمحمد.
من قولك: ظهرت على فلان: إِذا علوتَه، وظهرت على السطح: إذا صرتَ فوقه. اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون}
قيل سبب نزولها ما روي عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا فأنزل الله تعالى: {سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} قال عبد الله بن سلام فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخرجه الترمذي.
وقال المفسرون إن المؤمنين قالوا لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لعلمناه ولبذلنا فيها أموالنا وأنفسنا فأنزل الله: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا} وأنزل الله: {هل أدلكم على تجارة} الآية فابتلوا بذلك يوم أحد فولوا مدبرين وكرهوا الموت وأحبوا الحياة فأنزل الله تعالى لم تقولون ما لا تفعلون وقيل لما أخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بثواب أهل بدر قالت الصحابة لئن لقينا قتالًا لنفرغن فيه وسعنا ففروا يوم أحد فعيرهم الله بهذه الآية وقيل نزلت في شأن القتال كان الرجل يقول قاتلت ولم يقاتل وأطعمت ولم يطعم وضربت ولم يضرب فنزلت هذه الآية وقيل نزلت في المنافقين وذلك أنهم كانوا يعدون النصر للمؤمنين وهم كاذبون.
{كبر مقتًا عند الله} أي عظم بغضًا عند الله {أن تقولوا ما لا تفعلون} معناه أن يعدوا من أنفسهم شيئًا ولم يفوا به {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا} أي يصفون أنفسهم عند القتال صفًا ولا يزولون عن أماكنهم {كأنهم بنيان مرصوص} أي قد رص بعضه ببعض وألزق بعضه إلى بعض وأحكم فليس فيه فرجة ولا خلل ومنه الحديث: «تراصوا في الصف» ومعنى الآية إن الله يحب أن يثبت في الجهاد في سبيله ويلزم مكانه كثبوت البناء المرصوص.
قوله تعالى: {وإذ قال موسى لقومه} أي واذكر يا محمد لقومك إذ قال موسى لقومه بني إسرائيل {يا قوم لم تؤذونني} قيل: إنهم كانوا يؤذونه بأنواع من الأذى التعنت منها قولهم أرنا الله جهرة وقولهم لن نصبر على طعام واحد ومنها أنهم رموه بالأدرة {وقد تعلمون أني رسول الله إليكم} يعني تؤذونني وأنتم عالمون علمًا قطعيًا أني رسول الله إليكم والرسول يعظم ويوقر ويحترم ولا يؤذي {فلما زاغوا} أي عدلوا ومالوا عن الحق {أزاغ الله قلوبهم} أي أمالها عن الحق إلى غيره {والله لا يهدي القوم الفاسقين} أي لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق خارج عن طاعته وهدايته وهذا تنبيه على عظم إيذاء الرسل حتى إن أذاهم يؤدي إلى الكفر وزيغ القلوب عن الهدى {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم} أي إني رسول أرسلت إليكم بالوصف الذي وصفت به في التوراة {مصدقًا لما بين يدي من التوراة} أي مقر معترف بأحكام التوراة وكتب الله وأنبيائه جميعًا ممن قد تقدم {ومبشرًا برسول يأتي من بعدي} أي يصدق بالتوراة على مثل تصديقي فكأنه قيل ما اسمه فقال: {اسمه أحمد} عن أبي موسى قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يأتوا النجاشي» وذكر الحديث، وفيه قال: «سمعت النجاشي يقول أشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر به عيسى ولولا ما أنا فيه من الملك وما تحملت من أمر الناس لأتيته حتى أحمل نعليه» أخرجه أبو داود وعن عبد الله بن سلام قال مكتوب في التوراة صفة محمد وعيسى ابن مريم يدفن معه فقال أبو داود المدني قد بقي في البيت موضع قبر أخرجه الترمذي عن كعب الأحبار أن الحواريين قالوا لعيسى صلى الله عليه وسلم يا روح الله هل بعدنا من أمة؟ قال نعم يأتي بعدكم أمة حكماء علماء أبرار أتقياء كأنهم في الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق ويرضى الله منهم باليسير من العمل عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب} أي ومن أقبح ظلمًا ممن بلغ افتراؤه أن يكذب على الله وذلك أنهم علموا أن ما نالوه من نعمة فمن الله ثم كفروا به {وهو يدعى إلى الإسلام} معنى الآية أي الناس أشد ظلمًا ممن يدعوه ربه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام الذي له فيه سعادة الدارين فيجعل مكان إجابته افتراء الكذب على الله بقوله هذا سحر مبين {والله لا يهدي القوم الظالمين} أي لا يوفقهم للهداية علم من حالهم عقوبة لهم {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم} يعني إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن هذا سحر {والله متم نوره} يعني متم للحق ومظهره ومبلغه غايته وقال ابن عباس مظهر دينه {ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} أي ليعليه على الأديان المخالفة له ولقد فعل ذلك فلم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب ومقهور بدين الإسلام {ولو كره المشركون}، قوله: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} نزلت هذه الآية حين قالوا لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه وإنما سماه تجارة لأنهم يربحون فيه رضا الله ونيل جنته والنجاة من النار ثم بين تلك التجارة فقال تعالى: {تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم} أي الذي آمركم به من الإيمان والجهاد في سبيله {إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم} هذا جواب قوله تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون لأن معناه معنى الأمر والمعنى آمنوا بالله وجاهدوا في سبيل الله أي إذا فعلتم ذلك يغفر لكم ذنوبكم {ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم} يعني هذا الجزاء الذي ذكر هو الفوز العظيم، {وأخرى تحبونها} أي ولكم تجارة أخرى وقيل لكم خصلة أخرى تحبونها في العاجل مع ثواب الآخرة وتلك الخصلة {نصر من الله وفتح قريب}، قيل هو النصر على قريش وفتح مكة وقيل فتح مدائن فارس والروم {وبشر المؤمنين} أي يا محمد بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة ثم حضهم على نصر الدين وجهاد المخالفين فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله} أي مع الله والمعنى انصروا دين الله كما نصر الحواريون دين الله لما قال لهم عيسى من أنصاري إلى الله {قال الحواريون نحن أنصار الله} وكانوا اثني عشر رجلًا أول من آمن بعيسى وحواري الرجل صفيه وخلاصته ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «حواري» الزبير {فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة} قال ابن عباس في زمن عيسى وذلك أنه لما رفع تفرق قومه ثلاث فرق فرقة قالوا كان الله فارتفع وفرقة قالوا كان ابن الله فرفعه وفرقة قالوا كان عبد الله ورسوله فرفعه وهم المؤمنون واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس فاقتتلوا فظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنين حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة فذلك قوله تعالى: {فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} أي غالبين وقيل معناه فأصبحت حجة من آمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم أن عيسى روح الله وكلمته والله أعلم بمراده وأسرار كتابه. اهـ.